الاستعمار الروسي الجديد في الشرق الأوسط – خفايا وحقائق
قامت الجالية الروسية في مدينة ليماسول في قبرص بتنظيم احتفال خاص بمناسبة انتصار الاتحاد السوفيتي في حربه ضد ألمانيا النازية في الحرب العالمية الثانية تحت شعار “يوم النصر”.
قد يبدو الحدث للقارئ خبراً عادياً لا حاجة لإعطائه أية أهمية تُذكر، ولكن، التحليل المتأني للتواجد الروسي في غير مكان في الشرق الأوسط وفي دول أخرى، يُمَكّنُنا من استقراء أبعاد الاستراتيجية “البوتينية” التي نجحت، حتى الآن، في إعادة روسيا إلى مكانتها السابقة كإحدى القوى العظمى في العالم – بل أكبر قوّة عُظمى استعمارية في الوقت الحاضر. يُعذى نجاح روسيا هذا إلى تخبّط سياسات “ترامب”، والأدوار السياسية الباهتة للاتحاد الأوروبي التي نجمت عن فقدانه لتحالفه القوي معالولايات المتحدة من جهة، والانشقاقات والأزمات الداخلية بين أعضائه، من جهة أخرى.
في الشرق الأوسط، استعمرت روسيا سوريا (القلب النابض للشرق الأوسط) واحتلتها عسكرياً، وتحالفت مع تركيا “أردوغان” مانحة له الأمان والملاذ الوحيد الآمن من تنكّر الدول الأوروبية له وتلاعب السياسات الأميركية به، ورفضهما لطموحات تركيا الأوروبية والشرق أوسطية والعربية، كذلك، لجوء الصين إلى استخدام استراتيجية الاستعمار الاقتصادي لا العسكري للدول.
من ناحية أخرى، برهنت روسيا لإسرائيل أن مصالحهما مشتركة، بل مترابطة، وأنهم شركاء في أمن المنطقة إلى درجة التكامل، وذلك، من خلال النفوذ الفاعل لللوبي الروسي للمهاجرين الروس. يظهر هذا جليا من خلال سماح الحكومة الروسية للدولة العبرية بالتصرف بحرية مطلقة في المنطقة – عسكرياً وسياسياً. فهي تلتزم الصمت أو تتجاهل الخطوات التراتبية العملية التي تقوم بها إسرائيل من قضمٍ للأراضي العربية التي احتلتها إسرائيل عام 1967 في سوريا والضفة الغربية وغزة أو تغيير هياكلها القانونية وإنهاء حل الدولتين – بدعم أعمى من الحليف الأمريكي المتمثل في الرئيس اليميني المتطرف “دونالد ترامب” – وإطلاق يدها في قصف غزة وسوريا كيفما ارتأت.
في الشرق الأوسط، استعمرت روسيا سوريا واحتلتها عسكرياً، وتحالفت مع تركيا أردوغان مانحة له الأمان والملاذ الوحيد الآمن من تنكّر الدول الأوروبية له وتلاعب السياسات الأميركية به
وفي منطقة الخليج، استكملت روسيا إرساء طوق احتلالي عسكري على دول الخليج العربي الغني بالنفط، فصادقت نظام الملالي في طهران، الذي وجد أنّ تحالفه مع دولة عظمى هو؛ المَخرَج الوحيد له من عزلته السياسية، والاقتصادية الذين أساءا إلى الاستقرار الداخلي والنماء الاقتصادي لإيران.
في السودان، والجزائر، وليبيا، وعدد غير قليل من الدول الإفريقية الأخرى، اختارت روسيا سياسة الدعم المستتر للأنظمة العسكرية المعادية للديموقراطية وحرية الشعوب، ممّا سمح ذلك لروسيا بأن تصبح الآمر الناهي في المنطقة بلا منازع.
من ناحية أخرى، عادت روسيا بثقل عسكري واقتصادي ومخابراتي إلى كل من كوبا، وفنزويللا، وأوكرانيا، وكوريا الشمالية، لتمسك بمفاتيح استراتيجية ذكية تمكنها من إشعال النزاعات وتهديد المصالح الغربية في كل مكان من العالم.
في هذا الإطار الشامل، يكتسب الوجود الروسي – الآمن ظاهرياً – في جزيرة قبرص أهمية بالغة من النواحي الاقتصادية والمجتمعية واللوجستية. فالجزيرة التي هي عضو في الاتحاد الأوروبي فتحت مصراعيها لاستقبال الجالية الروسية بشكل ملفت. فمن خلال قانوني الاستثمار العقاري والاستثمار، الذي يعطي فيه الأول لشاري أي عقار بقيمة تزيد عن 300 ألف يورو حق الحصول على إقامة دائمة في قبرص له ولأسرته مع كل مكتسباتها التي تخوله التجول في الاتحاد الأوروبي ببطاقة الهوية وطلب الجنسية القبرصية بعد إقامة 7 أعوام. أمّا والمستثمرون لأكثر من مليون يورو، فيحق لهم الحصول على الجنسية القبرصية الأوروبية فوراً بعد دفع حوالي 7000 يورو.
في قبرص، أمست اللغة الروسية لغة أساسية في المجتمع، بحيث أصبح على العناصر الشابة الراغبة في التوظّف إتقانها كلغة رديفة للّغتين اليونانية والإنكليزية، كذلك، فإنّ عدداً كبيراً جداً من أسماء المحلات والإعلانات تكتب بالروسية أو تنطق بها.
سُمح للمستثمرين في مجال العقارات بناء الأبراج السكنية المُطلّة على البحر، الأمر الذي سبب تغيراً جذرياً في القوانين السابقة الخاصة بالبناء وتخطيط المدن؛ التي كانت تمنع تشييد الأبنية المرتفعة وبشكل خاص على الأراضي القريبة من البحر. أدّى ذلك أيضاً إلى تضاعف أسعار العقارات عشرات المرات – من مئات آلاف إلى ملايين اليوروهات للشقق ذات الواجهات المطلة على البحر. كما ازدادت الإيجارات بنسبة 3 أضعاف بحيث أصبحت عصية على الشباب متوسطي الدخل. أدى هذا إلى تطور سوق البناء بشكل طفرة اقتصادية يعكسها العدد الكبير من أبراج الأبنية السكنية والمكاتب التجارية المباعة سلفاً والتي يبقى 90% منها فارغاً، والتي تشتريها شركات الاستثمار العقاري التي على الأغلب تقوم بعملية غسل أموال من خلال نشاطاتها المشبوهة.
في قبرص، أمست اللغة الروسية لغة أساسية في المجتمع، بحيث أصبح على العناصر الشابة الراغبة في التوظّف إتقانها كلغة رديفة للّغتين اليونانية والإنكليزية، كذلك، فإنّ عدداً كبيراً جداً من أسماء المحلات والإعلانات تكتب بالروسية أو تنطق بها
الأهم في ذلك؛ هو التحوّل الكبير الذي طرأ على المجتمع القبرصي والمتمثل بازدياد كبير في عدد السيارات الفاخرة من نمط (فيراري، وبورش، وبنتلي، ومازيراتي، ولامبورغيني، وسيارات الهامر المدنية) بحيث أصبحت سيارات المرسيدس والبي إم والليكسوس سيارات عادية لا تلفت الأنظار. كذلك، ازداد عدد المطاعم الفاخرة، وارتفعت أسعار الوجبات، وأصبح حجر الشيشة في بعض فنادق الخمس نجوم يكلف 130 يورو للحجر الواحد.
خسر المجتمع القبرصي الكثير مما كان يميزه في السابق من أمان، فالسماح بافتتاح الكازينوهات وأندية القمار سبب زيادة في انتشار الدعارة وبيع المخدرات والتصفيات المافياوية، وغير ذلك من جرائم قتل وسرقات عادية.
دخلت إسرائيل والصين إضافة إلى الروس إلى مكونات المجتمع القبرصي من خلال شركات التنقيب عن الغاز، ومد الأنابيب التي سوف تنقله للتصدير إلى مصر ومنها إلى أوروبا وإسرائيل، وركز المستثمرون من هذه الدول إلى إنشاء شركات المضاربة في العملات والأسهم التي تهدف إلى تحقيق الربح الوفير والسريع – خاصة وأنّ الضريبة على الأرباح هي 10% فقط.
غير أن الجالية الروسية هي الأكثر عدداً وتنظيماً. لقد اختار الأثرياء الروس جزيرة قبرصلتكون مقرّاً رئيسياً لإدارة أعمالهم وإقامة أسرهم منذ بداية التسعينات، وازداد عدد المجنسين القبارصة من أصل روسي من بضع مئات ليزيد عن العشرة آلاف في عام 2019 يضاف إليهم حوالي 190 ألف روسي يقيم بشكل شرعي في الجزيرة. يتكون هذا العدد من أسر لرجال أعمال وموظفي شركات استثمار ومضاربات وبنوك، إضافة إلى قيادات المافيا الروسية المنظمة التي تشرف على غسل أموال التهريب وتجارة السلاح والمخدرات من خلال البنوك القبرصية والاستثمار في الشركات العقارية المرتبطة بها.
أصبح للجالية الروسية إذاعاتها الخاصة، وجريدة مطبوعة تبيع حوالي 30 ألف نسخة أسبوعياً، وشركات إعلان إضافة إلى عدد كبير من المطاعم والفنادق. أسّسَ الروس حزباً سياسياً تجاوز عدد أفراده الألف عضو، عدد كبير منهم من الجالية الروسية أو قبارصة يتحدثون اللغة الروسية. أعلن هذا الحزب EOP أنه حزب قبرصي نافياً اتهامه بأنه حزب الجالية الروسية. يتزعم الحزب “ألكسي فولوبوييف” وهو متجنس قبرصي من أصل روسي. سيشارك هذا الحزب في الانتخابات الأوروبية هذا الشهر.

الملفت في احتفال يوم النصر الذي جرى هذا الأسبوع هو؛ طريقة التنظيم وشموليتها. تضمّن الاحتفال باقة من المنوعات من أغنيات ورقصات وعزف لفرقة عسكرية وصلت على متن فرقاطة روسية رست في ميناء ليماسول. قام جنود الفرقاطة بالتنزه بلباسهم العسكري وزيارة الحفل والمشاركة في برنامجه الفني والتقاط الصور مع الأطفال والطفلات الروس الذين قام الكثير من أهاليهم بشراء ألبسة عسكرية أو قبعات عسكرية لهم(ن).

حمل الأطفال والنساء والشيوخ صور لشهداء الحرب العالمية الثانية مع نياشين على صدورهم، طبعها منظمو الحفل ووزعوها مثبتة على لافتات حملوها في مسيرة تصدرتها الفرقة الموسيقية العسكرية. الغريب هو أن العلم الذي كان مرفوعاً في الحفل علم الاتحاد السوفيتي في فترة الشيوعية كأنه رمزاً لقوة وجبروت الاتحاد السوفييتي.

يتواجد السوريون اليوم في عدد كبير من البلدان، سيكون من الرائع أن تقوم جالياتنا بتأسيس لجان لتنظيم المهرجانات والعروض والاحتفالات والمهرجانات الثقافية، محولة حالة اللجوء البائسة إلى نهضة ثقافية تُعرّف المجتمعات المضيفة على إرثنا التاريخي والحضاري ونتاجاتنا الثقافية تحت شعار التعددية نعمة لا نقمة، الدين لله والوطن للجميع.