theme-sticky-logo-alt
theme-logo-alt

“ماكرون” الخطوة الناقصة

0 Comments

بقلم: فهد ابراهيم باشا

“إنّ الدين الإسلامي يعيش أزمة حقيقية، ليس هنا فقط في فرنسا ولكن في كل أنحاء العالم” قول “ماكرون” هذا في الكلمة التي ألقاها في تأبين المدرس الفرنسي “صموئيل باتي” فاجأ المسلمين وحتى المعتدلين من الليبراليين في فرنسا والعالم.

فوجئ العالم باللغة التهجمية التي استخدمها الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” في خطابه في الثامن عشر من أكتوبر حول الجريمة الوحشية النكراء التي قتل فيها أحد أساتذة التعليم الإعدادي بفصل الرأس عن الجسد ذبحاً نتيجة عرضه على تلاميذه صوراً كاريكاتورية عن النبي محمد.

كان من المنتظر من رئيس فرنسا أن يسمو في خطابه على مشاعر الكراهية والتقسيم التي تهدد الأمن المجتمعي في بلد يشكل المسلمون فيه 9% من الفرنسيين، ويعتبر الدين الإسلامي فيه الديانة الثانية المعتنقة بين مواطنيه. كان من المنتظر أن يميّز “ماكرون” بين التطرف الاسلامي الإرهابي المدان دون تحفظ، وبين المسلمين الفرنسيين المسالمين الذين يحبون فرنسا الوطن ويحترمون قوانينه العلمانية وحرية الرأي والتعبير التي تقدسها قوانينه، ويرغبون في العيش بسلام ووئام مندمجين في مجتمعه التعددي التشاركي الديمقراطي.

ضجت وسائل التواصل الاجتماعي بعد الخطاب بالدعوة إلى اتخاذ موقف يعاقب الرئيس “ماكرون” من خلال معاقبة فرنسا اقتصادياً بمقاطعة البضائع الفرنسية. فلغة الاقتصاد مفهومة لدى رجال السياسة ومؤثرة في مستقبلهم السياسي.

هل يمكن لهذه الدعوات أن يكتب لها النجاح وكم هو الضرر الذي يمكنها أن تسببه لفرنسا وحكومة الرئيس “ماكرون”؟

قبل الاجابة على هذا السؤال لا بدّ من تحليل السبب وراء انطلاق هذه الدعوات، فهي تعبر عن غضب المسلمين من استهداف دينهم الحنيف بغير حقّ واعتبار ما قاله “ماكرون” إهانة لا ينبغي السكوت عنها.

الكلّ يدعم الرئيس “ماكرون” ويوافقه في محاربة التطرف الديني والسياسي، ولكن من الخطأ أن يربط الرئيس بين التطرف والإرهاب وبين الدين الإسلامي؛ حتى ولو قام عدد من المسلمين أفراداً أو مجموعات بتنفيذ أعمال إرهابية يندى لها جبين الانسانية باسم الدين الذ ي هو منهم براء.

فالمسلمون في أوروبا يشكلون 4.9% من السكان، والخوف الكبير أن ينتشر خطاب الكراهية للاسلام أو ما يعرف “بالاسلاموفوبيا” بشكل أكبر إلى باقي الدول الأوروبية، ففرنسا تعتبر من الدول الأساسية القائدة في الاتحاد الأوروبي.

من المؤسف أنّ الرئيس الفرنسي حاد بخطابه هذا عن قسمه الرئاسي بأن يكون حامياً للشعب الفرنسي دون تمييز، فالدستور يوجب عليه احترام المعتقدات والمكونات المجتمعية دون تمييز من أجل إحلال السلم الأهلي. ففي فرنسا الديمقراطية لا يوجد مكان لشيطنة مكوّن كامل من الشعب وتحميله وطأة جريمة وحشية قام بها شخص واحد أو مجموعة من الأشخاص. فالمسلمون الفرنسيون أنفسهم ومسلمو العالم من ورائهم يدعمون أي جهد لقمع التطرف والإرهاب، أو أي قرار أو تشريع يُصوّب الممارسات المشبوهة التي قد تحصل في المؤسسات والمساجد التي تمارس نشاطات تهدد المجتمع، ولكنهم لا يقبلون أن يعمم الاتهام ويعزز بخطاب كراهية يشمل دينهم الحنيف.

وفي نفس السياق، على الرئيس والحكومة توضيح معنى “حرية التعبير”! فهي مطلقة ومصانة في الدستور على ألا تهدد ممارساتها السلم الأهلي، أو تمثل إهانة أو استفزازاً لمعتقد أي مكوّن شريك في المجتمع. فالليبرالية الفرنسية تحترم “حرية المعتقد” تماماً كما تحترم “حرية التعبير”، وعلى الإعلام الحر أن يكون حارساً أميناً على صون هذه الحريات الدستورية، لا أن يقوم بترويج أفكار أو رسوم أو دعوات تشكل احتقاراً أو استفزازاً لأي شريك في الوطن باسم “حرية يسوء استخدامها”. ففي حال أطلقنا “حق التعبير” دون ضوابط فعلينا إذن أن نسمح بحق المواطنين الفرنسيين الذين يجندون في مجموعات إرهابية أن يعبروا عن آرائهم ويدعوا لمعتقداتهم الإرهابية المجرمة تحت سقف “حرية التعبير”. بالطبع هذا الأمر مرفوض ومناف للدستور ومهدد للمجتمع وينبغي على المجتمع والحكومة العمل سوياً للتصدي بحزم له.

غير أنّ الرئيس “ماكرون” حاكى في خطابه يوم الجمعة، مثيله الأميركي “دونالد ترامب” وخلط بين تطلعاته السياسية الشخصية وواجبه الدستوري الوطني المقدس. فهو من موقع إدانة العمل الاجرامي، أطلق أوّل خطاب دعائي انتخابي له في الانتخابات الرئاسية الفرنسية ربيع عام 2022. فالصعوبات السياسية التي يواجهها في الداخل كبيرة والشعبية التي كان يملكها عندما تولى الرئاسة عام 2017 تراجعت بشدة تحت وطأة المظاهرات الصاخبة لحركة القمصان الصفراء، ومواجهة الأعداد الكبيرة من المهاجرين، وفشل حكوماته بإقناع الشعب الفرنسي بدعم قوانينها الاصلاحية في مجالات العمل والتأمين الاجتماعي والتعليم إضافة إلى كارثة مواجهة جائحة “كوفيد 19″؛ كلّ ذلك أدى إلى نموّ وتزايد نفوذ اليمين الفرنسي المتطرّف وعودة اليمين المعتدل والاشتراكيين كمنافسين محتملين لحزب ماكرون في انتخابات لم تعد نتائجها مضمونة لصالح الرئيس؛ وهنا أراد الرئيس أن يذهب بعيداً إلى أقصى اليمين في خطابه المناهض للمسلمين ليدغدغ أنصار اليمين واليمين المتطرف الذين هم حكماً يكرهون المسلمين والمهاجرين.

وترتبط فرنسا مع دول الشرق الأوسط وبخاصة دول الخليج العربي وشمال أفريقيا بروابط اقتصادية قوية تجارية واستثمارية، منها: التجاري (الغذاء والدواء والعطور والأزياء والالكترونيات والسيارات والمشروبات وغير ذلك…)، ومنها الزراعي والنقل والطيران والخدمات والاتصالات، والكيماويات وبيع الطائرات المدنية والقاطرات الحديدية والأهم هو بيع السلاح.

تعتبر فرنسا خامس اقتصاد في العالم فهو يساوي خمس اقتصاد دول الاتحاد الأوروبي، وتبلغ صادراتها التجارية إلى دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا 35.28 مليار يورو بفائض تجاري يبلغ 209.056 مليون يورو (إحصائيات عام 2018). من ناحية أخرى استقطبت فرنسا العديد من المستثمرين العرب الذين استثمروا في شراء العقارات والأسهم في الشركات الفرنسية.

وفي أعقاب الدعوات الواسعة لمقاطعة المنتجات الفرنسية، بدأت حملات للمقاطعة انطلقت من القواعد الشعبية والجمعيات التعاونية والشركات التجارية والأسواق والمتاجر.

 ففي الكويت أعلنت أكثر من جمعية تعاونية رفع جميع السلع والمنتجات الفرنسية من رفوف الأفرع التابعة لها منها جمعية النعيم التعاونية وجمعية العقيلة التعاونية وجمعية عبد الله الصالح، فيما تم إطلاق أكثر من وسم منها “إلّا رسول الله”. وفي قطر أعلنت كل من شركة الوجبة للألبان وشركة الميرا للمواد الاستهلاكية مقاطعتهما. أمّا في السعودية والإمارات والبحرين وعمان فكانت المقاطعة الفعلية خجولة على الرغم من استعار الدعوات على وسائل التواصل الاجتماعي التي طالبت بتوسيع المقاطعة واتخاذ إجراءات أوسع على مستوى الدولة.

كم هو الضرر الذي يمكن أن تسببه هذه الحملات على الاقتصاد الفرنسي؟

في حال اقتصرت المقاطعة على نتائج التفاعل مع الدعوات على وسائل التواصل الاجتماعي، فإنّ النتيجة المتوقعة على الاقتصاد الفرنسي لن تكون جد مؤثرة أو ضاغطة على الحكومة الفرنسية ورئيسها.

فالشعوب العربية غير منظمة، والمقاطعة متروكة للاجتهادات الشخصية التي لن تؤدي أُكلها. فالمنتجات الفرنسية هي منتجات النخبة من المستهلكين الذين عادة ما يهتمون أكثر بترف حياتهم وتوفير احتياجاتهم الشخصية من الاصطفاف في الدفاع عن قضايا الدين والمجتمع والسياسة في غياب ضغط رسمي او تعميم يوجب ذلك ويجبر عليه تحت طائلة المسؤولية. فهل يتوقع أحد أن يتوقف مستهلكو العطورات الفرنسية أو الأزياء أو الأجبان أو المشروبات عن شراء حاجاتهم الاستهلاكية؟

أمّا الشريحة المهمة الأخرى التي ينبغي احتسابها؛ تكمن في مقاطعة العرب والمسلمين المقيمين في أوروبا ودول العالم للمنتجات الفرنسية في تلك البلدان. فهنا ينضم عدد أكبر من العرب والمسلمين للمقاطعين الإراديين والذين يشكلون شريحة استهلاكية يومية.

من ناحية أخرى من المستبعد أن تقوم البلاد العربية باتخاذ إجراءات على مستوى الدول لضعف الحكومات فيها واصطفافها وراء أجندات لقوى عالمية كبرى.

على الرغم من ذلك وسواء نجحت المقاطعة المطالب بها على صفحات التواصل الاجتماعي أو لم تنجح، سيدرك الرئيس “ماكرون” نفسه سريعاً أنّه أخطأ. فخطاب الكراهية الشامل الذي أطلقه سوف يصعّب مهامه ويساهم في إفشال جهوده السياسية في جعل فرنسا تعود كقوة عالمية فاعلة قادرة على المشاركة في صنع القرار في أكثر من مكان في العالم؛ في بيروت وسوريا وليبيا وشرق البحر الأبيض المتوسط وأفريقيا وغير مكان آخر. فلن يتأخر خصومه السياسيون من رؤساء الدول الأخرى وهم كثر من مهاجمة “ماكرون” وتصويره كمناهض للعرب والمسلمين، يكره دينهم ويحرّض الشعوب الاوروبية واليمين المتطرف فيها على “الإسلاموفوبيا”.  

المراجع: (فرانس 24، بي بي سي، العربي الجديد، Pew Research Center، Anadolou Agency، Institut Montaigne، World Integrated Trade Solution، Middle East Business، Focus Economics

Previous Post
حرية التعبير.. الحدود بين الحق المطلق والاستفزاز غير المبرّر
Next Post
فريق السلّة السّوري، شباب واعد يحتاج إلى تدريب

0 Comments

Leave a Reply

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

15 49.0138 8.38624 1 0 4000 1 https://fahedbacha.com 300 0